سورة النور - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}
الحكم السادس: في الاستئذان:
اعلم أنه تعالى عدل عما يتصل بالرمي والقذف وما يتعلق بهما من الحكم إلى ما يليق به لأن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت كأنها طريق التهمة، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به فقال: {يا أيها الذين آمنوا} الخ وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: الاستئناس عبارة عن الأنس الحاصل من جهة المجالسة، قال تعالى: {ولا مستأنسين لحديث} [الأحزاب: 53]، وإنما يحصل ذلك بعد الدخول والسلام فكان الأولى تقديم السلام على الاستئناس فلم جاء على العكس من ذلك؟ والجواب: عن هذا من وجوه:
أحدها: ما يروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير، إنما هو حتى تستأذنوا فأخطأ الكاتب، وفي قراءة أبي: حتى تستأذنوا لكم والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور، وهو الدخول بغير إذن واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب، وفي الحديث من سبقت عينه استئذانه فقد دمر واعلم أن هذا القول من ابن عباس فيه نظر لأنه يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ويقتضي صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر وفتح هذين البابين يطرق الشك إلى كل القرآن وأنه باطل.
وثانيها: ما روي عن الحسن البصري أنه قال إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا، وذلك لأن السلام مقدم على الاستئناس، وفي قراءة عبدالله: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وهذا أيضاً ضعيف لأنه خلاف الظاهر.
وثالثها: أن تجري الكلام على ظاهره. ثم في تفسير الاستئناس وجوه:
الأول: حتى تستأنسوا بالإذن وذلك لأنهم إذا استأذنوا وسلموا أنس أهل البيت، ولو دخلوا بغير إذن لاستوحشوا وشق عليهم الثاني: تفسير الاستئناس بالاستعلام والاستكشاف استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم. ومنه قولهم استأنس هل ترى أحداً، واستأنست فلم أر أحداً أي تعرفت واستعلمت، فإن قيل وإذا حمل على الأنس ينبغي أن يتقدمه السلام كما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: السلام عليكم أأدخل قلنا المستأذن ربما لا يعلم أن أحداً في المنزل فلا معنى لسلامه والحالة هذه، والأقرب أن يستعلم بالاستئذان هل هناك من يأذن، فإذا أذن ودخل صار مواجهاً له فيسلم عليه والثالث: أن يكون اشتقاق الاستئناس من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان، ولا شك أن هذا مقدم على السلام والرابع: لو سلمنا أن الاستئناس إنما يقع بعد السلام ولكن الواو لا توجب الترتيب، فتقديم الاستئناس على السلام في اللفظ لا يوجب تقديمه عليه في العمل.
السؤال الثاني: ما الحكم في إيجاب تقديم الاستئذان؟ والجواب: تلك الحكمة هي التي نبه الله تعالى عليها في قوله: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} فدل بذلك على أن الذي لأجله حرم الدخول إلا على هذا الشرط هو كون البيوت مسكونة، إذ لا يأمن من يهجم عليها بغير استئذان أن يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه غيرهم من الأحوال، وهذا من باب العلل المنبه عليها بالنص، ولأنه تصرف في ملك الغير فلابد وأن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب.
السؤال الثالث: كيف يكون الاستئذان؟
الجواب: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أألج؟ فقال عليه الصلاة والسلام لامرأة يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن قولي له يقول السلام عليكم أأدخل» فسمعها الرجل فقالها، فقال ادخل فدخل وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء وكان يجيب، فقال هل في العلم ما لا تعلمه، فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد آتاني الله خيراً كثيراً وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله»، وتلا إن الله عنده علم الساعة إلى آخره وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته حييتم صباحاً وحييتم مساء، ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصدق الله تعالى عن ذلك وعلم الأحسن والأجمل، وعن مجاهد حتى تستأنسوا هو التنحنح، وقال عكرمة هو التسبيح والتكبير ونحوه.
السؤال الرابع: كم عدد الاستئذان الجواب: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الاستئذان ثلاث بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردون» وعن جندب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له فليرجع» وعن أبي سعيد الخدري قال: كنت جالساً في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعاً، فقلنا له ما أفزعك؟ فقال أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثاً، فلم يؤذن لي فرجعت، فقال ما منعك أن تأتيني؟ فقلت قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي. وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» فقال لتأتيني على هذا بالبينة، أو لأعاقبنك. فقال أبي لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال فقام أبو سعيد فشهد له وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن قتادة الاستئذان ثلاثة: الأولى يسمع الحي، والثاني ليتأهبوا والثالث إن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردوا، واعلم أن هذا من محاسن الآداب، لأن في أول مرة ربما منعهم بعض الأشغال من الإذن، وفي المرة الثانية ربما كان هناك ما يمنع أو يقتضي المنع أو يقتضي التساوي، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع ثابت، وربما أوجب ذلك كراهة قربه من الباب فلذلك يسن له الرجوع، ولذلك يقول يجب في الاستئذان ثلاثاً، أن لا يكون متصلاً، بل يكون بين كل واحدة والأخرى وقت، فأما قرع الباب بعنف والصياح بصاحب الدار، فذاك حرام لأنه يتضمن الإيذاء والإيحاش، وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله تعالى: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4].
السؤال الخامس: كيف يقف على الباب الجواب: روي أن أبا سعيد استأذن على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل الباب، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب».
وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول السلام عليكم وذلك لأن الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.
السؤال السادس: أن كلمة (حتى) للغاية والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها فقوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن فما قولكم فيه؟
الجواب: من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس لا الاستئذان، والاستئناس لا يحصل إلا إذا حصل الإذن بعد الاستئذان.
وثانيها: أنا لما علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان أن لا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه فإن ذلك مما يسوءه، وعلمنا أن هذا المقصود لا يحصل إلا بعد حصول الإذن، علمنا أن الاستئذان ما لم يتصل به الإذن وجب أن لا يكون كافياً.
وثالثها: أن قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} فحظر الدخول إلا بإذن، فدل على أن الإذن مشروط بإباحة الدخول في الآية الأولى، فإن قيل إذا ثبت أنه لابد من الإذن فهل يقوم مقامه غيره أم لا؟ قلنا روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رسول الرجل إلى الرجل إذنه».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن».
وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما: أن الإذن محذوف من قوله: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} وهو المراد منه والثاني: أن الدعاء إذن إذا جاء مع الرسول وأنه لا يحتاج إلى استئذن ثان، وقال بعضهم إن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان.
السؤال السابع: ما حكم من اطلع على دار غيره بغير إذنه؟
الجواب: قال الشافعي رحمه الله: لو فقئت عينه فهي هدر، وتمسك بما روى سهل بن سعد قال: اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مدري يحك بها رأسه فقال: «لو علمت أنك تنظر إلي لطعنت بها في عينك إنما الاستئذان قبل النظر» وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه» قال أبو بكر الرازي: هذا الخبر يرد لوروده على خلاف قياس الأصول، فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً وكان عليه القصاص إن كان عامداً والأرش إن كان مخطئاً، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع، فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق، فإن صح فمعناه: من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع فذهبت عينه في حال الممانعة فهي هدر، فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي، ثم جاء إنسان ففقأ عينه، فهذا جان يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى: {العين * بالعين} [المائدة: 45] إلى قوله: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] واعلم أن التمسك بقوله تعالى: {والعين بالعين} في هذه المسألة ضعيف، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة، فإنها لو كانت مستحقة لم يلزم القصاص، فلم قلت: إن من اطلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة؟ وهذا أول المسألة.
أما قوله: إنه لو دخل لم يجز فقء عينه، فكذا إذا نظر قلنا الفرق بين الأمرين ظاهر، لأنه إذا دخل علم القوم دخوله عليهم فاحترزوا عنه وتستروا، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه، فلا يبعد في حكم الشرع أن يبالغ هاهنا في الزجر حسماً لباب هذه المفسدة، وبالجملة فرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا القدر من الكلام غير جائز.
السؤال الثامن: لما بينتم أنه لابد من الإذن فهل يكفي الإذن كيف كان أو لابد من إذن مخصوص؟
الجواب: ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقاً سواء كان الآذان صبياً أو امرأة أو عبداً أو ذمياً فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة وكذلك قبول أخبار هؤلاء في الهدايا ونحوها.
السؤال التاسع: هل يعتبر الاستئذان على المحارم؟ والجواب: نعم، عن عطاء بن يسار: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أستأذن على أختي؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «نعم أتحب أن تراها عريانة» وسأل رجل حذيفة أستأذن على أختي، فقال إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك، وقال عطاء سألت ابن عباس رضي الله عنهما استأذن على أختي ومن أنفق عليها؟ قال نعم إن الله تعالى يقول: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59] ولم يفرق بين من كان أجنبياً أو ذا رحم محرم.
واعلم أن ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز إلا أنه أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء. والتحقيق فيه أن المنع من الهجوم على الغير إن كان لأجل أن ذلك الغير ربما كان منكشف الأعضاء فهذا دخل فيه الكل إلا الزوجات وملك اليمين، وإن كان لأجل أنه ربما كان مشتغلاً بأمر يكره إطلاع الغير عليه وجب أن يعم في الكل، حتى لا يكون له أن يدخل على الزوجة والأمة إلا بإذن.
السؤال العاشر: إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟
الجواب: كل ذلك مستثنى بالدليل فهذا جملة الكلام في الاستئذان، وأما السلام فهو من سنة المسلمين التي أمروا بها، وأمان للقوم وهو تحية أهل الجنة ومجلبة للمودة وناف للحقد والضغينة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح عطس، فقال الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه يرحمك ربك يا آدم اذهب إلى هؤلاء الملائكة، وهم ملأ منهم جلوس فقل السلام عليكم، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك وتحية ذريتك» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم ست؛ يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، وينصح له بالغيب، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات» وعن ابن عمر قال قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إن سركم أن يسل الغل من صدوركم فأفشوا السلام بينكم».
أما قوله تعالى: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} فالمعنى فيه ظاهر، إذ المراد أن فعل ذلك خير لكم وأولى لكم من الهجوم بغير إذن {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لكي تتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به، ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا} أي في البيوت أحداً {فَلاَ تَدْخُلُوهَا} لأن العلة في الصورتين واحدة وهي جواز أن يكون هناك أحوال مكتومة يكره إطلاع الداخل عليها، ثم قال: {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} وذلك لأنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار فكذا الوقوف على الباب قد يكرهه، فلا جرم كان الأولى والأزكى له أن يرجع إزالة للإيحاش والإيذاء، ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير مسكونة، فقال: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} وذلك لأن المانع من الدخول إلا بإذن زائل عنها واختلف المفسرون في المراد من قوله: {بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} على أقوال: أحدها: وهو قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة، كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع، يروى أن أبا بكر قال يا رسول الله إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية.
وثانيها: أنها الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز.
وثالثها: الأسواق.
ورابعها: أنها الحمامات، والأولى أن يقال إنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية فيحمل على الكل، والعلة في ذلك أنها إذا كانت كذلك فهي مأذون بدخولها من جهة العرف، فكذلك نقول إنها لو كانت غير مسكونة ولكنها كانت مغصوبة، فإنه لا يجوز للداخل أن يدخل فيها لكن الظاهر من حال الخانات أنها موضوعة لدخول الداخل.
وأما قوله: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فهو وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.


{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
الحكم السابع: حكم النظر:
اعلم أنه تعالى قال: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ} وإنما خصهم بذلك لأن غيرهم لا يلزمه غض البصر عما لا يحل له ويحفظ الفرج عما لا يحل له، لأن هذه الأحكام كالفروع للإسلام والمؤمنون مأمورون بها ابتداء، والكفار مأمورون قبلها بما تصير هذه الأحكام تابعة له، وإن كان حالهم كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها، لكن المؤمن يتمكن من هذه الطاعة من دون مقدمة، والكافر لا يتمكن إلا بتقديم مقدمة من قبله، وذلك لا يمنع من لزوم التكاليف له.
واعلم أنه سبحانه أمر الرجال بغض البصر وحفظ الفرج، وأمر النساء بمثل ما أمر به الرجال وزاد فيهن أن لا يبدين زينتهن إلا لأقوام مخصوصين.
أما قوله تعالى: {يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الأكثرون (من) هاهنا للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة، ونظيره قوله: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} [الحاقة: 47] وأباه سيبويه، فإن قيل كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج؟ قلنا دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وكذا الجواري المستعرضات، وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه، ومنهم من قال: {يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} أي ينقصوا من نظرهم فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض ممنوع عنه، وعلى هذا من ليست بزائدة ولا هي للتبعيض بل هي من صلة الغض يقال غضضت من فلان إذا نقصت من قدره.
المسألة الثانية: اعلم أن العورات على أربعة أقسام عورة الرجل مع الرجل وعورة المرأة مع المرأة وعورة المرأة مع الرجل وعورة الرجل مع المرأة، فأما الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا عورته وعورته ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليستا بعورة، وعند أبي حنيفة رحمه الله الركبة عورة، وقال مالك الفخذ ليست بعورة، والدليل على أنها عورة ما روي عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به في المسجد وهو كاشف عن فخذه فقال عليه السلام: «غط فخذك فإنها من العورة» وقال لعلي رضي الله عنه: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» فإن كان في نظره إلى وجهه أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل، وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش، لما روى أبو سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» وتكره المعانقة وتقبيل الوجه إلا لولده شفقة، وتستحب المصافحة لما روى أنس قال: «قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقي أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال لا، قال أيلتزمه ويقبله؟ قال لا، قال أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال نعم» أما عورة المرأة مع المرأة فكعورة الرجل مع الرجل، فلها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، وعند خوف الفتنة لا يجوز، ولا يجوز المضاجعة. والمرأة الذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة، قيل يجوز كالمسلمة مع المسلمة، والأصح أنه لا يجوز لأنها أجنبية، في الدين والله تعالى يقول: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} وليست الذمية من نسائنا، أما عورة المرأة مع الرجل فالمرأة إما أن تكون أجنبية أو ذات رحم محرم، أو مستمتعة، فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة فإن كانت حرة فجميع بدنها عورة، ولا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه في البيع والشراء، وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء، ونعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين، وقيل ظهر الكف عورة.
واعلم أنا ذكرنا أنه لا يجوز النظر إلى شيء من بدنها، ويجوز النظر إلى وجهها وكفها، وفي كل واحد من القولين استثناء.
أما قوله يجوز النظر إلى وجهها وكفها، فاعلم أنه على ثلاثة أقسام لأنه إما أن لا يكون فيه غرض ولا فيه فتنة، وإما أن يكون فيه فتنة ولا غرض فيه، وإما أن يكون فيه فتنة وغرض أما القسم الأول: فاعلم أنه لا يجوز أن يتعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير غرض وإن وقع بصره عليها بغتة يغض بصره، لقوله تعالى: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} وقيل يجوز مرة واحدة إذا لم يكن محل فتنة، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله ولا يجوز أن يكرر النظر إليها لقوله تعالى: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] ولقوله عليه السلام: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» وعن جابر قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري» ولأن الغالب أن الاحتراز عن الأولى لا يمكن فوقع عفواً قصد أو لم يقصد أما القسم الثاني: وهو أن يكون فيه غرض ولا فتنة فيه فذاك أمور:
أحدها: بأن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيها، روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً».
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة».
وقال المغيرة بن شعبة خطبت امرأة فقال عليه السلام نظرت إليها، فقلت لا، قال فانظر فإنها أحرى أن يؤدم بينكما فكل ذلك يدل على جواز النظر إلى وجهها وكفيها للشهوة إذا أراد أن يتزوجها، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن.
وثانيها: إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها.
وثالثها: أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة إليه.
ورابعها: ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى غير الوجه لأن المعرفة تحصل به أما القسم الثالث: وهو أن ينظر إليها للشهوة فذاك محظور، قال عليه الصلاة والسلام: «العينان تزنيان».
وعن جابر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري وقيل: مكتوب في التوراة النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً.
أما الكلام الثاني: وهو أنه لا يجوز للأجنبي النظر إلى بدن الأجنبية فقد استثنوا منه صوراً:
إحداها: يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إليها للمعالجة، كما يجوز للختان أن ينظر إلى فرج المختون، لأنه موضع ضرورة.
وثانيتها: يجوز أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة على الزنا، وكذلك ينظر إلى فرجها لتحمل شهادة الولادة، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع، وقال أبو سعيد الإصطخري لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع، لأن الزنا مندوب إلى ستره، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء فلا حاجة إلى نظر الرجال للشهادة وثالثتها: لو وقعت في غرق أو حرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها، أما إذا كانت الأجنبية أمة فقال بعضهم عورتها ما بين السرة والركبة، وقال آخرون عورتها ما لا يبين للمهنة فخرج منه أن رأسها ساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة، وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف المذكور، ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال لا لحجامة ولا اكتحال ولا غيره، لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره، وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه أما إن كانت المرأة ذات محرم له بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها معه ما بين السرة والركبة كعورة الرجل، وقال آخرون بل عورتها ما لا يبدو عند المهنة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله فأما سائر التفاصيل فستأتي إن شاء الله تعالى في تفسير الآية، أما إذا كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها حتى إلى فرجها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه، لأنه يروي أنه يورث الطمس، وقيل لا يجوز النظر إلى فرجها ولا فرق بين أن تكون الأمة قنة أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة.
فإن كانت مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو متزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية، روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة» وأما عورة الرجل مع المرأة (ففيه) نظر إن كان أجنبياً منها فعورته معها ما بين السرة والركبة، وقيل جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه، والأول أصح بخلاف المرأة في حق الرجل، لأن بدن المرأة في ذاته عورة بدليل أنه لا تصح صلاتها مكشوفة البدن وبدن الرجل بخلافه، ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روي عن أم سلمة: أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليها فقال عليه الصلاة والسلام: «احتجبا منه» فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه» وإن كان محرماً لها فعورته معها ما بين السرة والركبة وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها، ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خال وله ما يستر عورته، لأنه روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عنه فقال: «الله أحق أن يستحيي منه» وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله» والله أعلم.
المسألة الثالثة: سئل الشبلي عن قوله: {يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} فقال أبصار الرؤوس عن المحرمات، وأبصار القلوب عما سوى الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} فالمراد به عما لا يحل، وعن أبي العالية أنه قال: كل ما في القرآن من قوله: {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}، ويحفظن فروجهن، من الزنا إلا التي في النور: {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}، {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أن لا ينظر إليها أحد، وهذا ضعيف لأنه تخصيص من غير دلالة، والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم الله عليه من الزنا والمس والنظر، وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر فالمس والوطء أيضاً مرادان بالآية، إذ هما أغلظ من النظر، فلو نص الله تعالى على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء والمس، كما أن قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] اقتضى حظر ما فوق ذلك من السب والضرب.
أما قوله تعالى: {ذلك أزكى لَهُمْ} [النور: 30] أي تمسكهم بذلك أزكى لهم وأطهر، لأنه من باب ما يزكون به ويستحقون الثناء والمدح، ويمكن أن يقال إنه تعالى خص في الخطاب المؤمنين لما أراده من تزكيتهم بذلك، ولا يليق ذلك بالكافر.
أما قوله تعالى: {وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} فالقول فيه على ما تقدم، فإن قيل فلم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج، قلنا لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه.
أما قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فمن الأحكام التي تختص بها النساء في الأغلب، وإنما قلنا في الأغلب لأنه محرم على الرجل أن يبدي زينته حلياً ولباساً إلى غير ذلك للنساء الأجنبيات، لما فيه من الفتنة وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في المراد بزينتهن، واعلم أن الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى سائر ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلى وغير ذلك، وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة عل الخلقة، لأنه لا يكاد يقال في الخلقة إنها من زينتها.
وإنما يقال ذلك فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره، والأقرب أن الخلقة داخلة في الزينة، ويدل عليها وجهان:
الأول: أن الكثير من النساء ينفردن بخلقتهن عن سائر ما يعد زينة، فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقه، ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه أيضاً الثاني: أن قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} يدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة وغيرها فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار، وأما الذين قالوا الزينة عبارة عما سوى الخلقة فقد حصروه في أمور ثلاثة: أحدها: الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والغمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها.
وثانيها: الحلى كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط.
وثالثها: الثياب قال الله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وأراد الثياب.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد من قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أما الذين حملوا الزينة على الخلقة، فقال القفال معنى الآية إلا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية، وذلك في النساء الوجه والكفان، وفي الرجل الأطراف من الوجه واليدين والرجلين، فأمروا بستر ما لا تؤدي الضرورة إلى كشفه ورخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه وأدت الضرورة إلى إظهاره إذ كانت شرائع الإسلام حنيفية سهلة سمحة، ولما كان ظهور الوجه والكفين كالضروري لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة، أما القدم فليس ظهوره بضروري فلا جرم اختلفوا في أنه هل هو من العورة أم لا؟ فيه وجهان: الأصح أنه عورة كظهر القدم، وفي صوتها وجهان أصحهما أنه ليس بعورة، لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يروين الأخبار للرجال، وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فقالوا إنه سبحانه إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف أنه يحل النظر إليها حالما لم تكن متصلة بأعضاء المرأة، فلما حرم الله سبحانه النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة، وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوشمة والغمرة وزينة بدنها من الخضاب والخواتيم وكذا الثياب، والسبب في تجويز النظر إليها أن تسترها فيه حرج لأن المرأة لابد لها من مناولة الأشياء بيديها والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة والمحاكمة والنكاح.
المسألة الثالثة: اتفقوا على تخصيص قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالحرائر دون الإماء، والمعنى فيه ظاهر، وهو أن الأمة مال فلابد من الاحتياط في بيعها وشرائها، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء بخلاف الحرة.
أما قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} فالخمر واحدها خمار، وهي المقانع.
قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يشددن خمرهن من خلفهن، وإن جيوبهن كانت من قدام فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط به من شعر وزينة من الحلى في الأذن والنحر وموضع العقدة منها، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء، والباء للإلصاق، وعن عائشة رضي الله عنها ما رأيت خيراً من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرت فأصبحن على رؤوسهن الغربان وقرئ {جُيُوبِهِنَّ} بكسر الجيم لأجل الياء وكذلك {بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ}.
فأما قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} فاعلم أنه سبحانه لما تكلم في مطلق الزينة تكلم بعد ذلك في الزينة الخفية التي نهاهن عن إبدائها للأجانب، وبين أن هذه الزينة الخفية يجب إخفاؤها عن الكل، ثم استثنى اثنتي عشرة صورة أحدها: أزواجهن.
وثانيها: آباؤهن وإن علون من جهة الذكران والإناث كآباء الآباء وآباء الأمهات.
وثالثها: آباء أزواجهن.
ورابعها.
وخامسها: أبناؤهن وأبناء بعولتهن، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا من الذكران والإناث كبني البنين وبني البنات.
وسادسها: إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما.
وسابعها: بنو إخوانهن.
وثامنها: بنو أخواتهن وهؤلاء كلهم محارم، وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: أفيحل لذوي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل له في المؤمنة؟
الجواب: إذا ملك المرأة وهي من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة، بل لأمر يرجع إلى مزية الملك على اختلاف بين الناس في ذلك.
السؤال الثاني: كيف القول في العم والخال؟
الجواب: القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر وهو قول الحسن البصري، قال لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب وقال في سورة الأحزاب {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءَابَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] الآية. ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم وقد ذكروا هاهنا، وقد يذكر البعض لينبه على الجملة.
قال الشعبي: إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفهما العم عند ابنه الخال كذلك، ومعناه أن سائر القرابات تشارك الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وأبناءهما، فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم فيقرب تصوره لها بالوصف من نظره إليها، وهذا أيضاً من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهم في التستر.
السؤال الثالث: ما السبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة؟
الجواب: لأنهم مخصوصون بالحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن ولقلة توقع الفتنة بجهاتهن، ولما في الطباع من النفرة عن مجالسة الغرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم فى الأسفار وللنزول والركوب.
وتاسعها: قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} وفيه قولان:
أحدهما: المراد والنساء اللاتي هن على دينهن، وهذا قول أكثر السلف.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات وثانيهما: المراد بنسائهن جميع النساء، وهذا هو المذهب وقول السلف محمول على الاستحباب والأولى.
وعاشرها: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} وظاهر الكلام يشمل العبيد والإماء، واختلفوا فمنهم من أجرى الآية على ظاهرها، وزعم أنه لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، واحتجوا بهذه الآية وهو ظاهر. وبما روى أنس: أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بها، قال: «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» وعن مجاهد: كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم.
وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر.
وروي أن عائشة رضي الله عنها: كانت تمتشط والعبد ينظر إليها، وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم: إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، واحتجوا عليه بأمور:
أحدها: قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاث إلا مع ذي محرم» والعبد ليس بذي محرم منها فلا يجوز أن يسافر بها، وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبي.
وثانيها: أن ملكها للعبد لا يحلل ما يحرم عليه قبل الملك إذ ملك النساء للرجال ليس كملك الرجال للنساء، فإنهم لم يختلفوا في أنها لا تستبيح بملك العبد منه شيئاً من التمتع كما يملكه الرجل من الأمة.
وثالثها: أن العبد وإن لم يجز له أن يتزوج بمولاته إلا أن ذلك التحريم عارض كمن عنده أربع نسوة فإنه لا يجوز له التزوج بغيرهن فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب.
إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} الإماء فإن قيل الإماء دخلن في قوله: {نِسَائِهِنَّ} فأي فائدة في الإعادة؟ قلنا الظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن من في صحبتهن من الحرائر والإماء، وبيانه أنه سبحانه ذكر أولاً أحوال الرجال بقوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى آخر ما ذكر فجاز أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذ كانوا ذوي المحارم أو غير ذات المحارم، ثم عطف على ذلك الإماء بقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} لئلا يظن أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} يقتضي الحرائر دون الإماء كقوله: {شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة: 282] على الأحرار لإضافتهم إلينا كذلك قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} على الحرائر، ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر وحادي عشرها: قوله تعالى: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل هم الذين يتبعونكم لينالوا من فضل طعامكم، ولا حاجة بهم إلى النساء، لأنهم بله لا يعرفون من أمرهن شيئاً، أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، ومعلوم أن الخصى والعنين ومن شاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع ويكون له إربة قوية فيما عداه من التمتع، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد. فيجب أن يحمل المراد على من المعلوم منه إنه لا إربة له في سائر وجوه التمتع، إما لفقد الشهوة، وإما لفقد المعرفة، وإما للفقر والمسكنة، فعلى هذه الوجوه الثلاثة اختلف العلماء. فقال بعضهم هم الفقراء الذين بهم الفاقة، وقال بعضهم: المعتوه والأبله والصبي، وقال بعضهم: الشيخ، وسائر من لا شهوة له، ولا يمتنع دخول الكل في ذلك، وروى هشام بن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة فقال يا عبد الله إن فتح الله لكم غداً الطائف دللتك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال عليه الصلاة والسلام:
لا يدخلن عليكم هذا فأباح النبي عليه الصلاة والسلام دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولى الإربة فحجبه، وفي الخصى والمجبوب ثلاثة أوجه: أحدها: استباحة الزينة الباطنة معهما والثاني: تحريمها عليهما والثالثة: تحريمها على الخصى دون المجبوب.
المسألة الثانية: الإربة الفعلة من الأرب كالمشية والجلسة من المشي والجلوس والأرب الحاجة والولوع بالشيء والشهوة له، والإربة الحاجة في النساء، والإربة العقل ومنه الأريب.
المسألة الثالثة: في {غَيْرِ} قراءتان قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر غير بالنصب على الاستثناء أو الحال يعني أو التابعين عاجزين عنهن والقراءة الثانية بالخفض على الوصفية وثاني عشرها: قوله تعالى: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الطفل اسم للواحد لكنه وضع هاهنا موضع الجمع لأنه يفيد الجنس، ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونظيره قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: 5].
المسألة الثانية: الظهور على الشيء على وجهين:
الأول: العلم به كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف: 20] أي إن يشعروا بكم والثاني: الغلبة له والصولة عليه كقوله: {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} [الصف: 14] فعلى الوجه الأول يكون المعنى أو الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء ولم يدروا ما هي من الصغر وهو قول ابن قتيبة، وعلى الثاني الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء، وهو قول الفراء والزجاج.
المسألة الثالثة: أن الصغير الذي لم يتنبه لصغره على عورات النساء فلا عورة للنساء معه، وإن تنبه لصغره ولمراهقته لزم أن تستر عنه المرأة ما بين سرتها وركبتها، وفي لزوم ستر ما سواه وجهان:
أحدهما: لا يلزم لأن القلم غير جار عليه والثاني: يلزم كالرجل لأنه يشتهي والمرأة قد تشتهيه وهو معنى قوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء} واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم، وأما الشيخ إن بقيت له شهوة فهو كالشاب، وإن لم يبق له شهوة ففيه وجهان:
أحدهما: أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة والثاني: أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة، وهاهنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى، قال الحسن هؤلاء وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الباطنة فهم على أقسام ثلاثة، فأولهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها، والحرمة الثانية للابن والأب والأخ والجد وأبي الزوج وكل ذي محرم والرضاع كالنسب يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك، والحرمة الثالثة هي للتابعين غير أولي الإربة من الرجال وكذا مملوك المرأة فلا بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة، ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعراً ولا بشراً والستر في هذا كله أفضل، ولا يحل للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب، فهذا ضبط هؤلاء المراتب.
أما قوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} فقال ابن عباس وقتادة كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها، ومعلوم أن الرجل الذي يغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهن، وقد علل تعالى ذلك بأن قال: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن يعلم زينتهن من الحلى وغيره وفي الآية فوائد: الفائدة الأولى: لما نهى عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى الثانية: أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك الثالثة: تدل الآية على حظر النظر إلى وجهها بشهوة إذا كان ذلك أقرب إلى الفتنة.
أما قوله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في التوبة وجهان:
أحدهما: أن تكاليف الله تعالى في كل باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها وإن ضبط نفسه واجتهد، ولا ينفك من تقصير يقع منه، فلذلك وصى المؤمنين جميعاً بالتوبة والاستغفار وتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة، فإن قيل قد صحت التوبة بالإسلام والإسلام يجب ما قبله فما معنى هذه التوبة؟ قلنا قال بعض العلماء إن من أذنب ذنباً ثم تاب عنه لزمه كلما ذكره أن يجدد عنه التوبة، لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه إلى أن يلقى ربه.
المسألة الثانية: قرئ {أَيُّهَ المؤمنون} بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها، والله أعلم.
المسألة الثالثة: تفسير لعل قد تقدم في سورة البقرة في قوله: {اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] والله أعلم.


{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)}
الحكم الثامن: ما يتعلق بالنكاح:
اعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بغض الأبصار وحفظ الفروج بين من بعد أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل، فبين تعالى بعد ذلك طريق الحل فقال: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف الأيامى واليتامى أصلهما أيايم ويتايم فقلبا، وقال النضر بن شميل الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الضحاك، تقول: زوجوا أيامكم بعضكم من بعض، وقال الشاعر:
فإن تنكحي انكح وإن تتأيمي *** وإن كنت أفتى منكموا أتأيم
المسألة الثانية: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} [النور: 32] أمر وظاهر الأمر للوجوب على ما بيناه مراراً، فيدل على أن الولي يجب عليه تزويج مولاته وإذا ثبت هذا وجب أن لا يجوز النكاح إلا بولي، إما لأن كل من أوجب ذلك على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية، وإما لأن المولية لو فعلت ذلك لفوتت على الولي التمكن من أداء هذا الواجب وأنه غير جائز، وإما لتطابق هذه الآية مع الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».
قال أبو بكر الرازي هذه الآية وإن اقتضت بظاهرها الإيجاب إلا أنه أجمع السلف على أنه لم يرد به الإيجاب، ويدل عليه أمور:
أحدها: أنه لو كان ذلك واجباً لورد النقل بفعله من النبي صلى الله عليه وسلم ومن السلف مستفيضاً شائعاً لعموم الحاجة إليه، فلما وجدنا عصر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأعصار بعده قد كان في الناس أيامى من الرجال والنساء، فلم ينكروا عدم تزويجهن ثبت أنه ما أريد به الإيجاب.
وثانيها: أجمعنا على أن الأيم الثيب لو أبت التزوج لم يكن للولي إجبارها عليه.
وثالثها: اتفاق الكل على أنه لا يجبر على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامى، فدل على أنه غير واجب في الجميع بل ندب في الجميع.
ورابعها: أن اسم الأيامى ينتظم فيه الرجال والنساء وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم كذلك في النساء والجواب: أن جميع ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية والعام بعد التخصيص يبقى حجة، فوجب أن يبقى حجة فيما إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب، وحينئذ ينتظم وجه الكلام.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله، الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها، لأن الآية والحديث يدلان على أمر الولي يتزويجها، ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزاً له تزويجها أيضاً بغير رضاها، لعموم الآية، قال أبو بكر الرازي قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} لا يختص بالنساء دون الرجال على ما بينا فلما كان الاسم شاملاً للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء، وأيضاً فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئمار البكر بقوله:
البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها وذلك أمر وإن كان في صورة الخبر، فثبت أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها والجواب: أما الأول فهو تخصيص للنص وهو لا يقدح في كونه حجة والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده أمره بخلاف المرأة، فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها في التزويج أظهر، وأيضاً فلفظ الأيامى وإن تناول الرجال والنساء، فإذا أطلق لم يتناول إلا النساء، وإنما يتناول الرجال إذا قيد وأما الثاني: ففي تخصيص الآية بخبر الواحد كلام مشهور.
المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة رحمه الله العم والأخ يليان تزويج البنت الصغيرة، ووجه الاستدلال بالآية كما تقدم.
المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله، الناس في النكاح قسمان منهم من تتوق نفسه في النكاح فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبة النكاح سواء كان مقبلاً على العبادة أو لم يكن كذلك، ولكن لا يجب أن ينكح، وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته لما روى عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء».
أما الذي لا تتوق نفسه إلى النكاح فإن كان ذلك لعلة به من كبر أو مرض أو عجز يكره له أن ينكح، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام بحقه، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له النكاح، لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى، وقال أبو حنيفة رحمه الله: النكاح أفضل من التخلي للعبادة، وحجة الشافعي رحمه الله وجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا مّنَ الصالحين} [آل عمران: 39] مدح يحيى عليه السلام بكونه حصوراً والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن، ولا يقال هو الذي لا يأتي النساء مع العجز عنهن، لأن مدح الإنسان بما يكون عيباً غير جائز، وإذا ثبت أنه مدح في حق يحيى وجب أن يكون مشروعاً في حقنا لقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} ولا يجوز حمل الهدى على الأصول لأن التقليد فيها غير جائز فوجب حمله على الفروع.
وثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام:
استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة ويتمسك أيضاً بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن.
وثالثها: أن النكاح مباح لقوله عليه الصلاة والسلام: «أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح».
ويحمل الأحب على الأصلح في الدنيا لئلا يقع التناقض بين كونه أحب وبين كونه مباحاً، والمباح ما استوى طرفاه في الثواب والعقاب، والمندوب ما ترجح وجوده على عدمه فتكون العبادة أفضل.
ورابعها: أن النكاح ليس بعبادة بدليل أنه يصح من الكافر والعبادة لا تصح منه، فوجب أن تكون العبادة أفضل منه لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] والاشتغال بالمقصود أولى.
وخامسها: أن الله تعالى سوى بين التسري والنكاح ثم التسري مرجوح بالنسبة إلى العبادة ومساوى المرجوح مرجوح، فالنكاح مرجوح، وإنما قلنا إنه سوى بين التسري والنكاح لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} [النساء: 3] وذكر كلمة أو للتخيير بين الشيئين، والتخيير بين الشيئين أمارة التساوي، كقول الطبيب للمريض كل الرمان أو التفاح، وإذا ثبت الاستواء فالتسري مرجوح، ومساوى المرجوح مرجوح، فالنكاح يجب أن يكون مرجوحاً.
وسادسها: أن النافلة أشق فتكون أكثر ثواباً بيان أنها أشق أن ميل الطباع إلى النكاح أكثر، ولولا ترغيب الشرع لما رغب أحد في النوافل، وإذا ثبت أنها أشق وجب أن تكون أكثر ثواباً لقوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل العبادات أحمزها».
وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «أجرك على قدر نصبك».
وسابعها: لو كان النكاح مساوياً للنوافل في الثواب مع أن النوافل أشق منه لما كانت النوافل مشروعة. لأنه إذا حصل طريقان إلى تحصيل المقصود وكانا في الإفضاء إلى المقصود سببين وكان أحدهما شاقاً والآخر سهلاً، فإن العقلاء يستقبحون تحصيل ذلك المقصود بالطريق الشاق مع المكنة من الطريق السهل، ولما كانت النوافل مشروعة علمنا أنها أفضل.
وثامنها: لو كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لكان الاشتغال بالحراثة والزراعة أولى من النافلة بالقياس على النكاح والجامع كون كل واحد منهما سبباً لبقاء هذا العالم ومحصلاً لنظامه.
وتاسعها: أجمعنا على أنه يقدم واجب العبادة على واجب النكاح، فيقدم مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب.
وعاشرها: أن النكاح اشتغال بتحصيل اللذات الحسية الداعية إلى الدنيا، والنافلة قطع العلائق الجسمانية وإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر؟ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» فرجح الصلاة على النكاح، حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه:
الأول: أن النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا فيكون ذلك دفعاً للضرر عن النفس، والنافلة جلب النفع ودفع الضرر أولى من جلب النفع الثاني: أن النكاح يتضمن العدل والعدل أفضل من العبادة لقوله عليه الصلاة والسلام:
لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة الثالث: النكاح سنة مؤكدة لقوله عليه الصلاة والسلام: «من رغب عن سنتي فليس مني». وقال في الصلاة وإنها: «خير موضوع فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل» فوجب أن يكون النكاح أفضل.
المسألة السادسة: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} [النور: 32] وإن كانت تتناول جميع الأيامى بحسب الظاهر لكنهم أجمعوا على أنه لابد فيها من شروط، وقد تقدم شرحها في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 24].
أما قوله تعالى: {مّنكُمْ} فقد حمله كثير من المفسرين على أن المراد هم الأحرار لينفصل الحر من العبد، وقال بعضهم بل المراد بذلك من يكون تحت ولاية المأمور من الولد أو القريب، ومنهم من قال الإضافة تفيد الحرية والإسلام.
أما قوله تعالى: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر أنه أيضاً أمر للسادة بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين، وأنه لا فرق بين هذا الأمر وبين الأمر بتزويج الأيامى في باب الوجوب، لكنهم اتفقوا على أنه إباحة أو ترغيب، فأما أن يكون واجباً فلا، وفرقوا بينه وبين تزويج الأيامى بأن في تزويج العبد التزام مؤنة وتعطيل خدمة، وذلك ليس بواجب على السيد وفي تزويج الأمة استفادة مهر وسقوط نفقة، وليس ذلك بلازم على المولى.
المسألة الثانية: إنما خص الصالحين بالذكر لوجوه:
الأول: ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم الثاني: لأن الصالحين من الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم (و) ينزلونهم منزلة الأولاد في المودة، فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم، وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك الثالث: أن يكون المراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج الرابع: أن يكون المراد الصلاح في نفس النكاح بأن لا تكون صغيرة فلا تحتاج إلى النكاح.
المسألة الثالثة: ظاهر الآية يدل على أن العبد لا يتزوج بنفسه، وإنما يجوز أن يتولى المولى تزويجه، لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه، فيكون توليه بإذنه بمنزلة أن يتولى ذلك نفس السيد، فأما الإماء فلا شبهة في أن المولى يتولى تزويجهن خصوصاً على قول من لا يجوز النكاح إلى بولي.
أما قوله تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: الأصح أن هذا ليس وعداً من الله تعالى بإغناء من يتزوج. بل المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون تزويجها ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح، فهذا معنى صحيح وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغني حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف، وروي عن قدماء الصحابة ما يدل على أنهم رأوا ذلك وعداً، عن أبي بكر قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، وعن عمر وابن عباس مثله قال ابن عباس: التمسوا الرزق بالنكاح، وشكى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاجة فقال: عليك بالباءة وقال طلحة بن مطرف: تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم وأوسع لكم في أخلاقكم ويزيد في مروءتكم، فإن قيل: فنحن نرى من كان غنياً فيتزوج فيصير فقيراً؟ قلنا الجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء الله إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28] المطلق محمول على المقيد.
وثانيها: أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه يكون خاصاً في بعض المذكورين دون البعض وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون.
وثالثها: أن يكون المراد الغنى بالعفاف فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البضع والاستغناء به عن الوقوع في الزنا.
المسألة الثانية: من الناس من استدل بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم فتقتضي الآية بيان أن العبد قد يكون فقيراً وقد يكون غنياً، فإن دل ذلك على الملك ثبت أنهما يملكان، ولكن المفسرون تأولوه على الأحرار خاصة. فكأنهم قالوا هو راجع إلى الأيامى، أما إذا فسرنا الغنى بالعفاف فالاستدلال به على ذلك ساقط.
أما قوله: {والله واسع عَلِيمٌ} فالمعنى أنه سبحانه في الإفضال لا ينتهي إلى حد تنقطع قدرته على الإفضال دونه، لأنه قادر على المقدورات التي لا نهاية لها، وهو مع ذلك عليم بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10